مالك بن أنس.
اجتمعت الأسرة الصغيرة ذات مساء. كما تعودت بعد كل صلاة عشاء. تتذاكر أمور الحياة والدين فيحكي الأب عما صادفه وجه النهار في متجره الصغيرة الذي يبيع فيه الحرير، وعما عرض له خلاف البيع والشراء من واقعات. ويشرح لأولاده ولأم البنين ما حفظه عن أبيه عن جده الصحافي من أحاديث وآثار، وتأخذ الأسرة باستيعاب ما يقول. وفي تلك الليلة ألقى الأب سؤالا في الدين على أفراد أسرته فاحسنوا الإجابة إلا ولده الأصغر مالكا..
كان في نحو العاشرة، قد حفظ القرآن وبعض الأحاديث، وامتلأت آفاقه بنور الكلمات، ولكن عقله لم يكن قد استطاع أن يعي ما فيها .. وكان مالك لنضارة سنه يحب أن يرتع ويلعب. وغضب أنس على ولده الصغير مالك لأنه أخطأ في الإجابة على سؤال في الدين، ونهزه لأنه مشغول باللعب مع الحمام، وهذا يلهيه عن العلم!. وبكى الصبي كما لم يبك من قبل، وفزع إلى أحضان أمه يسألها الحماية والنصيحة، ويستعينها على ما هو فيه.
ونشطت أمه من غدها بعد صلاة الفجر فأدخلته الحمام، وطيبته وألبسته احسن ثياب وعممته، ودفعت به إلى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ليتلقى العلم، واختارت له حلقة "ربيعة" من بين سبعين حلقة تلتف حول أعمدة المسجد النبوي يقوم عليها سبعون من أساطين العلم .. "ربيعة" هو حينذاك اكبر فقيه يجتهد رأيه ليستنبط الحكم عندما لا يجده في نص قطعي الدلالة .. وهو اكثر العلماء دعوة إلى الاجتهاد والأخذ بالرأي من أجل ذلك سمي ربيعة الرأي.
ويتعود الصبي بعد ذلك طيلة حياته أن يستحم ويتطيب ويلبس خير ثيابه كلما جلس يتعلم أو ليعلم. ولكم عجب رواد المسجد لذلك الصبي الأشقر يفوح منه الطيب في عمامة الشيوخ وهو يمسك بلوح يكتب فيه كل ما يقوله "ربيعة" ويشرب بعينيه وأذنيه مسائل صعبة من اجتهاد ربيعة الذي لم يكن يروي أحاديث يمكن أن تحفظ، بل يلقي بفتاوى واستنباطات يحتاج فهمها إلى عقل ناضج، ورأس كبير جدير بالعمامة التي يحملها.
ومنذ ذلك اليوم من أوائل القرن الثاني للهجرة أخذ مالك نفسه بالمشقة في طلب العلم .. نصحته أمه أن يذهب إلى المسجد النبوي، فيجلس إلى "ربيعة" ليأخذ من علمه قبل أدبه .. وكان ربيعة مشهورا في المدينة بفقه الرأي .. ولكن الصبي لم يعكف على ربيعة وحده، فقد بهره ما في الحلقات الأخرى من فنون المعارف .. فتنقل بين حلقات الفقهاء .. يحفظ القرآن ويصغي إلى تفسيره في هذه الحلقة أو تلك .. ثم ينتقل إلى حلقات أخرى فيحفظ منها الأحاديث النبوية ويستوعب تأويل الأحاديث. ويتلقى فتاوى الصحابة من شيخ، والرد على ما يثار من أفكار وآراء في العقائد من شيخ آخر .. ثم يعود إلى ربيعة أو غيره من الشيوخ الذي يجد لديهم علما أغزر.
كان يحمل معه حشية تقيه برد المسجد إذا كان الشتاء، وما كان يكتفي بما يتعلم في المسجد بل يلتمس الشيوخ دروهم يستزيد من علمهم ويصبر على ما في بعضهم من حدة .. ولقد ينتظر أحد الشيوخ في الطريق ساعات ما يجد فيها شجرة تقيه الهاجرة حتى إذا رأى الشيخ يعود إلى داره انتظر لحظة ثم قرع عليه بابه. ولقد يملأ أكمامه بالتمر يهديه لجاريه أحد الفقهاء لتمكنه من الخلوص إلى المعلم المنشود. وكان مالك إذا جلس ليستمع للأحاديث وهو صبي يحمل معه خيطا فيعقد مع كل حديث عقدة .. حتى إذا كان آخر النهار، أعاد على نفسه الأحاديث وعد العقد .. فإن وجد نفسه قد نسى شيئا قرع باب الشيخ الذي سمع منه الأحاديث فيحفظ منه ما نسى.
انقطع مالك لطلب العلم، ومات عائله وشب الفتى وأصبح عليه أن يعول نفسه وزوجته وبنته .. وكانت به تجارة بأربعمائة دينار ورثها عن أبيه. ولكنه كان مشغولا عنها بطلب العلم فكسدت تجارته، واضطر إلى أن يبيع خشبا من سقف بيته ليعيش هو وأسرته بثمنه، وكان الجوع يعضه ويعض زوجه وابنته فتصرخ الطفلة من الجوع طيلة ليلها.
فيدير أبوها الرحى ولا يسمع الجيران صراخها .. ولما قد بلغ أوج شبابه، وجد نفسه عاجزا عن توفير ما يكفي أهل بيته إلا أن يضحي بطلب العلم ..
فانفجرت أولى صرخات اجتهاده وناشد الحاكمين أن يمكنوا أهل العلم اجتهاده وناشد الحاكمين أن يمكنوا أهل العلم من التفرغ للعلم، وأن يجروا عليهم رواتب تكفل لهم الحياة الكريمة .. غير أن أحدا لم يلتفت إليه، فقد كانت الدولة الأموية التي عاش شبابه في ظلها مشغولة بتثبيت أركانها، وبتآلف قلوب شيوخ أهل العلم دون شبابهم. والتقى به في تلك الفترة طالب علم شاب من أهل مصر هو الليث بن سعد .. كان قد ألف أن يحج ما بين عام وعام ويزور المدينة ويجلس إلى حلقات الفقهاء في الحرم النبوي، وقد أعجب كل واحد منهما بذكاء صاحبه ونشأت بينهما علاقة احترام متبادل، ألقى الله في قلبيهما مودة ورحمة .. ولاحظ الليث بن سعد أن صديقه ـ على الرغم من أناقة ثيابه ونظافتها، وعلى الرغم من رائحة المسك والطيب التي تسبقه ـ فقير جهد الفقر، وإن كان ليداري فقره تعففا وإباء!..
وكان الليث واسع الغنى، فمنح صاحبه مالا كثيرا وأقسم عليه أن يقبله. وعاد الليث إلى وطنه مصر وظل بها يصل صاحبه مالك بن أنس بالهدايا وبالمال، حتى أصلح الملك حال مالك ووجد من الخلفاء من يستجيب إلى ندائه المتصل أن تجري الرواتب على أهل العلم. ولقد سئل مالك عن عدم السعي في طلب الرزق والانقطاع إلى العلم فقال: "لا يبلغ أحد ما يريد من هذا العلم حتى يضر به الفقر ويؤثره على كل حال .. ومن طلب هذا الأمر صبر عليه..!
وفي الحق أنه ظل طالب علم بعد أن أصبح فقيها كبيرا يسعى إليه الناس ومن كل أقطار الأرض وإلى أن توفى سنة 179 هـ وهو في نحو السادسة والثمانين. ولقد ظل يعلم الناس، عندما جلس للعلم، أن يتحرجوا في الفتيا وفي إبداء آرائهم، فإذا كان الفقيه غير مثبت مما يقول فعليه في شجاعة أن يعترف بأنه لا يدري. ذلك أن الفتيا لون من البلاء لأهل العلم. فمن حسب نفسه قد أوتي العلم كله، فهو جاهل حقا .. وشر الناس مكانا هو من يضع نفسه في مكان ليس أهلا له. وإن رأى الناس غير ذلك، فصاحب العلم أدرى بنفسه، وللرأي أمانته.
ويحكى أن رجلا جاءه من أقصى الغرب موفدا من أحد فقهائها، ليسأل مالك ابن أنس عن مسألة .. فقال مالك: "أخبر الذي أرسلك أن لا علم لي بها، فأخبره الرجل أنه جاء من مسيرة ستة أشهر ليسال عن هذه المسألة. فقال مالك: "وما أدى وما ابتلينا بهذه المسألة في بلدنا وما سمعنا أحداً من أشياخنا تكلم فيها ولكن تعود غدا". وظل مالك يفكر في المسألة ويقرأ ما يمكن أن يتصل بها حتى إذا كان الغد جاءه الرجل فقال له مالك: "سألتني وما أدري ما هي" فقال الرجل "ليس على وجه الأرض أعلم منك وما جئتك من مسيرة أشهر إلا لذلك" فقال مالك: لا أحسن.
بهذه الأناة والتحرج كان مالك يعالج الفتيا. ولقد عاش في المدينة المنورة طيلة حياته منذ ولد فيها نحو سنة 93 هـ إلى أن ثوى تحت ثراها آخر الدهر. لم يبرحها قط إلا لحج أو عمرة .. كان مالك يجد في المدينة ريح النبوة، ونفحات علوية من أنفاس الرسول حتى لكأنه يستنشق كل خفقة من أنسام مدينة الرسول جلال الأيام الباهرة الخالية:
أيام النور والوحي والبطولات والفرقان.
ومازال أهل المدينة يصغون كما كانوا يصغون في زمن رسول الله "صلى الله عليه وسلم" والصحابة الأوائل .. إنهم ليتوارثون سنته الشريفة في القول والعمل، الآباء عن الأجداد .. آلافا عن آلاف حتى لقد صح عنده أن عمل أهل المدينة في عصره سنة مؤكدة، وأنه بالاعتبار عند الفتيا والقضايا من أحاديث الآحاد...
إنه لعاشق لمدينة رسول الله كما لم يعشق أحد مدينة من قبل ولا من بعد، يكاد يحمل لها من التعظيم ما يحمله للرسول صلى الله عليه وسلم نفسه ولصاحبته. حكى الشافعي أنه رأى على باب مالك هدايا من خيل خراسانية وبغال مصرية فقال الشافعي "ما احسن هذه الأفراس والبغال" فقال مالك: "هي لك فخذها جميعا" قال الشافعي: "ألا تبقي لك منها دابة تركبها؟" قال مالك: "إني لأستحي من الله تعالى أن أطأ تربة فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم بحافر دابة".
وفي الحق أن الحياة في المدينة كانت تناسب طبيعة مالك .. فقد ظلت المدينة بعيدا عن مضطرب التيارات الفكرية التي تصطحب غيرها من مدائن المسلمين، فهي تعيش على السنن المتوارثة وتنأى بنفسها عن صراع العقائد، والجدل الفلسفي، وكلام الباحثين فيما وراء الغيب، وكل ما أنتجته ترجمة الفلسفات اليونانية والهندية والفارسية، إنها حقا قرية مؤمنة ورب غفور .. ومالك بن أنس رجل يحب الدعة وينشد السكينة، ويعكف على الدرس المطمئن. وهو يكره الجدل واللجاج والصخب والمناظرة، والكلام فيما لا ينفع الناس في حياة كل يوم.
وكان يقول لمن سافر لمن يريدون الجدل في العقائد "تجادلوا .. وكلما جاء رجل أجدل من رجل تركنا ما نزل به جبريل، وغير الإنسان دينه". وكان مالك لا يحب أن يخوض غمرات الصراع السياسي .. وكانت المدينة بالقياس إلى غيرها من بلاد المسلمين أكثرهن بعدا عن الثورات والفتن ومناهضة الحكام. ولقد بلغ نفوره من الجدل حدا جعله يصد عنه هارون الرشيد عندما لقيه في المدينة وطلب منه أن يناظر أبا يوسف صاحب أبي حنيفة.
فقال مالك مغضبا: "إن العلم ليس كالتحريش بين البهائم والديكة" كان مالك يعتقد أن الجدال في الدين مفسدة للدين. وقال: "إن الجدل يبعد المتجادلين عن حقيقة الدين. إن المراء والجدل في الدين يذهبان بنور العلم من قلب المؤمن "وسئل" "رجل له علم بالسنة ألا يجادل عنها؟" فقال "يخبر بالسنة فان قبل منه، وإلا سكت."
على أن الأفكار الجديدة اقتحمت على مالك وأهل المدينة حياتهم، وفرضوا عليهم النظر فيها، فقد كان أصحابها يذهبون إلى الحجاز للحج والعمرة وللزيارة .. وكان على مالك وأهل العلماء في المدينة أن يناظروا فيما هو مطروح من أفكار وكلام. وصفات الله. كيف يرى يوم القيامة وخلق القرآن .. والقدر والجبر والاختيار. وفرضت القضايا نفسها على فقهاء الحجاز .. أما مالك فقال: "الكلام في الدين أكرهه وأنهى عنه ولم يزل أهل بلدنا (المدينة) يكرهونه وينهون عنه .. نحو الكلام في القدر والجبر ونحو ذلك ولا أحب الكلام إلا فيما تحته عمل. "وما تحته عمل من الدين هو ما يفيد الناس في الأصول. أما العقائد فقد نهى عن الجدل فيها وقد فسر مالك كل آية تتحدث عن العداوة والبغضاء التي تقع بين عباد الله، بأنها الخصومات للجدل في الدين.
وكان مالك يتساءل عن جدوى هذه الأفكار المبتدعة عن ذات الله وصفاته والجبر والاختيار؟ وخلق القرآن؟ وما عساها تحقق من مصالح أو تدفع من مضار؟ إنه لأولى بأهل العلم أن يشتغلوا بالحكمة .. والحكمة التي جاءت كثيرا في القرآن هي ـ في رأي مالك ـ في دين الله والعمل به...
ولقد أطلق مالك على أصحاب الكلام في العقائد والجبر ونحو ذلك من أصحاب بدع وقال عنهم إنه ما عرف أشد منهم سخفا ولا حمقا .. فما جدوى الكلام فيما يتكلمون فيه؟ ماذا يحقق جدل كهذا من مصالح للعباد؟ .. إن المعتقدات يجب ألا تكون موضوع كلام وعلى المسلم العاقل أن يسلم بها تسليما مطلقا، وأن يجعل همه إلى ما وراء ذلك مما ينفع الناس، ويمكث في الأرض يدفع عنهم الضرر والمفاسد، ويضبط لهم علاقاتهم وحياتهم ومعاشهم بما يستنبطه من أحكام الشريعة.
فليسأل أهل العلم أنفسهم ما هو مقصد الشريعة الإسلامية وما هدفها؟ .. وليتقوا الله حق تقاته وهم يجيبون على هذه المسألة .. أهو في الشريعة الإسلامية يتخاصم الناس ويتمارون حول القدر وخلق القرآن ورؤية الله والجبر والاختيار؟ .. وبهذا تنصرف العقول عن التفكير فيما ينفع الناس؟ .. لا بل إن هدف الشريعة هو إقامة العمران في هذا العالم وتحقيق مصالح العباد في الدنيا والآخرة ...
من أجل ذلك فقد وجب على العلماء والفقهاء أن يبصروا الناس بما يحقق المصلحة ويقيم عمارة العالم. وبما يدرأ عنهم المفاسد وبما يضبط أمورهم على أركان ركنية من العدل والتقوى وصلاح الأمور. والأحكام التي تحقق مقاصد الشريعة منصوص عليها في القرآن والحديث، ويجب التعرف عليها بكل طرائق الفهم والتفسير، وتدبر ما وضح وما خفي من دلالات النصوص، فإن لم يسعف النص في مواجهة ما يستجد من أحداث، فلينظر الفقيه في إجماع الصحابة ليستخلص الحكم، ففي إجماع الصحابة حجة كالسنة المؤكدة، فإن لم يجد الفقيه ما يشفي فلينظر في عمل أهل المدينة لأنهم تلقوه آلاف عن آلاف عن الرسول صلى الله عليه وصحابته .. فإن كان ما استجد من قضايا لا حكم قضية سابقة وأورد به نص إن توافرت العلة في القضيتين فان تعارض هذا القياس مع مصلحة فليفضل الحكم الذي يحقق المصلحة استحسانا له .. فهو الأحسن. وإن لم يسعفه القياس فلينظر في عرف الناس وعاداتهم إن لم يكن مخالفا لما أحله .. فإن لم يجد فلينظر أين المصلحة .. وليجعل تحقيق المصلحة هو مناط الحكم.
على أن مالك بن أنس لم يوفق إلى هذه الأفكار ويدلي برأي إلا بعد أن أصبح صاحب حلقة يدرس فيها. فهاهو ذا مالك بن أنس تجري به السنون لتعدو الأربعين، وقد يلزم الفقهاء نحو ثلاثين عاما، فتلقى عنهم الأحاديث النبوية، ومحصها وحقق إسنادها وتدارس معهم ما ينبغي لاستنباط الأحكام التي تواجه قضايا لم تعرض من قبل، وتعلم منهم الكتاب والحكمة، وتفكر في خلق السماوات والأرض وأحوال العباد، وتدارس معاملات الناس، فتكون له رأي خاص، واستقل بنظره في كل أمور الدنيا والآخرة اتبع في بعضه السنة وأفكار السلف الصالح وعمل أهل المدينة وأعرافها وعاداتها.
واستنبط الأحكام في بعضه الآخر بما يحقق المنفعة ويدرأ المفسدة. جاء الوقت الذي ينبغي له فيه أن يجلس إلى أحد أعمدة الحرم النبوي، ويجعل له حلقة خاصة يفتي فيها الناس ويعلمهم ما علم رشدا ويطرح عليهم ما تكون له من فقه وما استقر عنده من تأويل الأحاديث. وكان مالك قبل أن يجلس ليعلم الناس ويفتيهم، وقد اختلف مع أستاذه ربيعة، فرأى مالك أن يستقل بحلقة، أقترحها عليه مشايعوه، غير أنه لم يفعلها من فوره بل طاف على سبعين من أصحاب الحلقات والشيوخ في المسجد النبوي، يعرض عليهم فقهه، ويستأذنهم في أن يجلس ليعلم الناس.
وأجازه له أساتذته لم يختلف على إجازته أحد، اختار المكان الذي كان يجلس فيه عمر بن الخطاب ليستروح منه جلال الأيام الرائعة الماضية، حين كان كل الصحابة يعيشون في المدينة المنورة .. أمسكهم فيها عمر لا يبرحونها إلا بإذنه، لكي يعلموا الناس، ولكي يستشيرهم إذا احتاج الأمر، ولكيلا يفتن بهم أهل الأقطار الأخرى من حديثي العهد بالإسلام.
وكان مالك بن أنس من قبل قد اختار سكنا له دار الصحابي عبد الله بن مسعود، ليخفق منه القلب بنبضات عصر النبوة .. ذلك العصر المضيء بنور الإيمان والمعرفة والشوق المقدس العظيم إلى صياغة عالم جديد من الطهارة والإخاء والنبل والعدالة والحرية والسكينة والنعيم ..
لقد أثث مالك بن أنس داره بأجمل أثاث، وزينها بأحسن زينة وملأ أجواءها بعرف البخور المعطر. ذلك أن الحياة أقبلت عليه .. فنال راتبا كبيرا من بيت المال، ثم توالت عليه هدايا الخلفاء فقد اقتنع الخلفاء برأيه في أن أهل العلم يجب ألا يشغلوا عنه بالسعي في طلب الرزق، بل يجب أن يكون لهم نصيب من بيت المال، فينال منه رواتب منتظمة كبيرة، كما ينال قواد الجيش الذين يقومون على حماية الأمة وسد الثغور .. فنشر العلم سد للثغور الروحية أمام الجهل، والتوفر على نشر العلم جهاد. وإذن فينبغي أن يكون لكل من العالم وطالب العلم جزاء المجاهدين كل بقدر ما يكفيه.